رسالة إنسان إلى كل إنسان
الفصل الثاني
1 دواعي تنظيم العالم
أخي الانسان
لقد قطعت البشرية بفضل عيش الإنسان وسط الآخرين أشواطا مهمة من التقدم، كما حقق الأفراد فيها تعايشا لا يستهان به نظرا لإحساسهم بحاجتهم لبعضهم البعض إذ كان لا بد لهم من الاتحاد من أجل التغلب على الأخطار. ولم تكن البشرية قبل قرون مضت بهذا الشكل وبهذا الحجم الديموغرافي الهائل ولا شك أبدا في أن جسمها نما وكبر خلال مئات القرون الماضية مثلما ينمو جسم الإنسان ويكبر مع مرور السنين. فقبل عشرة قرون مضت كان العدد الديموغرافي للبشرية أقل نسمة مما هو عليه الآن، ونفس الملاحظة يمكن استنتاجها لو رجعنا بعشرة قرون أخرى إلى الخلف حيث نجد العدد بالنسمة يصغر تناسبا مع عودة التاريخ إلى الوراء.
وكان قد نتج عن عيش الأبناء تحت رعاية الأب والأم ظهور الأسرة التي تعتبر أول نظام ظهر يحمي حق الفرد. كما أن تجمع الأسر فيما بينها سبب ظهور الدواوير ثم القبائل التي أدت حاجتها هي الأخرى للاتحاد إلى ظهور الدول بمختلف أنظمتها.. إلا أنه مع مرور الوقت وجدت هذه الدول هي الأخرى في نفسها الحاجة للشراكة فظهرت عصبة الأمم.. ثم الأمم المتحدة.. وما تزال حاجة الدول في الاتحاد ملحة بسبب المشاكل التي تواجهها وتهدد أمنها وسلامتها، نظرا لعجز المنظمة على اتخاذ قرارات تخدم مصالح العالم كله بدل مجموعة معينة من الدول.
ونظرا إلى كل الأسباب التي قد تدفع بالبشرية إلى الهلاك تتحتم علينا ضرورة تنظيم العالم على أساس دولي ينتفي منه التعصب القومي والمصلحة الخاصة. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بإقامة نظام عالمي الطبع يوجه شؤون العالم لمنفعة جميع الأفراد دون تمييز بين الأجناس، كما تحصل فيه كل دولة على ضمانات تحميها وعلى نصيبها من الفرص السانحة للتقدم.
إن تقدم دولة ما يقاس بقوتها وغناها بحيث أننا نقصد بالدولة المتقدمة تلك التي تملك المال الوافر لتحقيق الاكتفاء الذاتي لكل مواطنيها وكذلك القوة اللازمة لحمايتهم والدفاع عنهم إذا ما تعرضوا للخطر مهما كان نوعه. وبما أن المال والقوة ينتجان عن المعرفة فإنه ينبغي على الدولة السائرة في طريق النمو أن يتوقف تقدمها هذا على مدى تطور معارفها وحسن توظيفها لها مع أن التحول الفكري غالبا ما يصطحب معه التحول الاجتماعي. ومثلما تتغذى كل الأجساد وتنمو، يتغذى جسد الدولة ويكبر ولعل ما يشرح ظهور الإمبراطوريات في الماضي وتوسعها الإقليمي هو مصدر قوتها الغني والمتنوع الذي للمعرفة فيه نصيبا كبيرا. ولو نظرنا إلى جسم الإمبراطورية فإننا سنرى في مراحل توسعه نفس مراحل تخمر العجين. فمثلما ينتفخ العجين ويفيض على جوانب القصعة بسبب التفاعل الكيميائي للخميرة وبسبب إغفال العجان، يكبر جسم الإمبراطورية ويفيض على دول مجاورة بسبب التفاعل الفكري "المعرفة" وبسبب إغفال الحاكم للأعراف الدولية. غير أن مثل هذا السلوك أصبح مرفوضا، لأن العالم تغير شيئا ما ولم يعد سهلا على أية دولة كيفما كانت أن تتجاوز إقليمها سوى بالاتفاق. وحتى لو تجرأت دولة معينة على اقتراف مثل هذا الخطأ فإنها تسعى جاهدة لمنح تصرفها الصبغة الشرعية.
ومن هذا المنطلق يصبح من واجب ممثلي الإنسانية التفكير في خلق سلطة مشتركة، تساهم في قيامها كل الأمم، تحمي حقوق الدول الضعيفة من سلوك الدول الطاغية وتحمي الشعوب من تسلط الحكام الاستبداديين كما تنهج التبادل التجاري في كل أنحاء العالم. لأن اشتراك المصالح بين كل الدول وتوسيع مجال الحريات لدى الأفراد هو ما يجسد العولمة بمفهومها الصحيح.
إن العولمة ظاهرة اجتماعية نشأت في نفوس الأفراد من أجل تحقيق غاية واحدة وهي إحساس الفرد بأنه جزء من العالم وأنه على اتصال مباشر معه، لهذا أصبح تقنينها أمرا حتميا ما دام للقانون مهمة التنسيق بين القوى المتنازعة كما للسياسة مهمة التوفيق بين متطلبات الشعب وانجازات الحكومة. وليست العولمة تخص الاقتصاد وحده، بل تتجاوزه حدودها إلى أبعد من ذلك ليصبح من الممكن قول عولمة الحقوق، عولمة الأفكار والمفاهيم، عولمة الأخلاق...وعند الحديث عن العولمة فالقصد بذلك يكون العالم المتحد أو المتحالف.
وإذا كانت الدولة تمثل تحالف مجموعة من القبائل والقبيلة تمثل تحالف مجموعة من الأسر والأسرة تمثل تحالف عدد من الأفراد فإن العولمة تمثل تحالف مجموع الدول. وليست الأسرة أو القبيلة أو الدولة أو العولمة مجرد أسماء نطلقها على جماعة من الأفراد بل هي مراحل تحتم على جسم البشرية المرور بها مثلما يمر جسم الإنسان بالمراحل الأربعة: الطفولة والشباب ثم الكهولة فالشيخوخة.
2 الحياة الاجتماعية دوافعها وشروطها:
إن التطور الذي عرفته الجماعة منذ القدم والتكاثر إضافة إلى الاتحاد الذي حصل بين البعض منها ضد البعض الآخر، كل ذلك جعل طبيعة العلاقات التي تربط بين الأفراد تتطور من البسيط إلى المعقد. وتعود هذه العلاقات بالدرجة الأولى إلى وحدة الدم أو اشتراك المصالح أو تقارب الأفكار. وكلما تطورت هذه العلاقات تطورت معها علاقات المجتمع ككل وأثرت بشكل عام على الحياة الاجتماعية فيه. ويعود سبب الاتحاد الذي حصل بين الأفراد رغم المنافسة والصراع إلى أن الحياة مع الآخرين مسألة طبيعية لا خيار فيها للإنسان ويتطلب تحقيقها بشكل جيد ومفيد التزام الفرد بالواجبات واحترامه للأعراف (عادات وتقاليد وقوانين غير مكتوبة..) التي تعد الركيزة الأساسية لقيام الجماعة وتماسكها كما تعتبر مصدر قوتها الوحيد.
وتلعب المنافسة الدور الرئيسي في تطور علاقات الأفراد فيما بينهم وهي غالبا ما تتحول إلى حرب معلنة بين الأطراف المتنافسة، لكنها تحمل معها إمكانية توقفها في أية لحظة لأن بعض المواقف تتطلب من المتنافسين الاتفاق من أجل مصلحة الأطراف كلها خصوصا عندما تتعادل موازين القوى حيث يتنازل كل واحد عن بعض الأمور للطرف الآخر. ومثلما تخلق المنافسة الصراع والحرب تخلق معه التقدم والرقي كما لها دور جد مهم في التطور الذي عرفته العلاقات انطلاقا من بين الإخوة في الأسرة إلى ما بين المجتمعات في العالم. وبفضلها قطعت الحياة الاجتماعية أشواطا عديدة من التطور وحققت بعض المكتسبات تخص شروط الحياة الكريمة التي تستحيل دون توفير قسط من الحرية الشخصية التي هي ضرورة لا بد منها لوجود الإنسان، كما تستحيل دون توفير شرط آخر الذي هو العدالة الاجتماعية القائمة أساسا على وضع قوانين تساوي بين الناس في الحقوق وتعاقب كل من تجاوز الإطار المتفق عليه.
وتقوم العدالة الاجتماعية على أساس كبت بعض الحريات من أجل تحقيق البعض منها علما بأن الحرية الهادفة هي التي تدفع بالإنسان إلى التخلص من قيود الأهواء التي قد تضعه موضع الجبن والضعف والتبعية عوض موضع القوة والسيادة. ولولا هذا الكبت المعقلن لبعض الحريات لما وجدت الطاقة الإبداعية في الأفراد. ولهذا بقدر ما يتحكم الإنسان في سلوكه ويسيطر على غرائزه بقدر ما تتضاعف طاقته الإبداعية.
إن علاقة المجتمع بأفراده كعلاقة الكائن الحي بخلاياه. وإن كانت حياته مرتبطة كل الارتباط بحياة الأسر فإن أسباب ارتقائه تنبعث عن أقليات صغيرة من أفراد مبدعين مع العلم أن دور هذه الأقلية المبدعة في تطور المجتمع كدور الغدد في تطور الكائن الحي ونموه. ولما تخفق الطاقة الإبداعية في مثل هؤلاء الأفراد ينهار المجتمع ويتوقف نموه مثلما يتوقف نمو الإنسان بعدما تتعطل غدته الدرقية عن العمل ويعد جسم المجتمع كباقي الأجسام الحية، يجوع ويتغذى، يمرض ويشفى كما يكبر وينمو.
3 مراحل نمو جسم البشرية
1-3 الأسرة
إن المرحلة الأولى التي مرت بها البشرية تعد لبنة رئيسية في عملية تأسيس نظام الثلاثية الاجتماعية ولقد تطلبت إقرار النظام الأسري في أول محطة لها خلال سيرها على طريق الحياة الاجتماعية. فأثناء هذه المرحلة كان الإنسان الأولي(آدم) قد أمعن النظر جيدا فيما مضى من حياته ووجد أنه من الضروري أن يضع القوانين ويقوي الأسس التي تثبت وجوده وتحقق له سيادته على الأرض. وبناء على ذلك قام نظام الأسرة على أساس تعايش الإخوة تحت ظل الأبوين إلا أن هذا التعايش لم يتحقق إلا بعدما تعلم الأبناء التزام حدودهم بمعرفة ما لهم وما عليهم وبعد تدريبهم كذلك على عدم استجابتهم للدوافع الغريزية بشكل فوري غير معقلن. إن فهمهم هذا وإدراكهم لعدم تجاوز الخطوط الحمراء التي يحددها الأب بالشكل الذي يدركون فيه أن مصلحتهم تكمن في ذلك هو ما جعلهم يتشبثون بالنظام أكثر ما دامت مصلحة كل واحد منهم تبقى محفوظة وسط إخوته. وهذا ما ارتآه الأب حينما فكر في أن يصيرون سنده ثم يستمرون بعده.
وعلى ما يبدو أن دراسة خصائص الأسرة ستساعد أكثر على فهم التطورات التي ترتبت عنها في تكوين المجتمعات.
تتألف الأسرة من اتحاد الرجل والمرأة وناتج هذا الاتحاد هم الأولاد، ومما لاشك فيه أن للرجل خصائص ومميزات مغايرة لما عند المرأة، كما أنه من المعروف منذ القدم أن الأنثى تكرس معظم وقتها لرعاية صغارها أما الذكر فعليه يقع حمل توفير الغذاء والدفاع ضد العدو.
وعليه ، فنشاط الرجل يتطلب منه استخدام العقل الذي يستدعي منه أن يكون حذرا وقادرا على مواجهة الظروف المفاجئة طالما أنه الأقوى والأكثر استعدادا للصراع، كل هذا جعل الرجل منذ القدم يقرر بحسم ما يجب عمله أمام أي مشكلة، حتى أن تفكيره مال إلى محاولة فهم الظواهر الطبيعية خوفا على نفسه وعلى رعاياه من الأخطار التي تنتج عنها. وهذا الاستخدام العقلي المتواصل طور عند الرجل ملكة التفكير وزاد من حدة ذكائه.
أما نشاط المرأة فكان يتميز منذ القدم باللون العاطفي، وتتحرك إرادتها بدافع الغريزة كما أن طريقة تفكيرها تعتمد على الحدس ونهاية انفعالها البكاء الذي يخفف من توترها وهو ما يعطل تطور ملكة التفكير عندها، لأن التوتر أو الانفعال يعد رئيسيا في عملية إنتاج العقل للأفكار. ولهذا السبب نادرا ما نسمع عن امرأة مفكرة كما أننا لم نسمع قط عن امرأة فيلسوفة. فمهما تطورت المرأة وتفوقت على الرجال العاديين فهي دائما دون مستوى الرجال العظماء. وحتى لو تمكنت المرأة من ربط الأفكار القصوى بعضها ببعض وفقا لقواعد المنطق فإنها ستتخذ لعملها الفكري ميدانا ضيقا شتان بينه وبين الشمولية.
إنني أقول هذا وليس في نيتي مهاجمة المرأة أو احتقارها حاشى ولا يرضي الله وأستغفر الله العظيم وإنما هذا ما يشهد به التاريخ لها. وبالنظر إليها كامرأة، فالطبيعة أوهبتها طابعا أنثويا خاصا عليها معرفة تقنينه لتحصل على السعادة. ومما لا شك فيه أن مطلب مساواتها مع الرجل الذي تقدمت به .. يعود بالدرجة الأولى إلى استخفافها بضعف رجل العصر الحديث في تدبير شؤونه وفي تلبية حوائجها وحمايتها كذلك، لكن في حالة ما إذا وجدت المرأة نفسها جنب الرجل بمعنى الرجل فهي تبرز خضوعها له كما تكون في غاية سعادتها التي تكمن في الأمومة.
قد يكون دور الأب في الأسرة يعتبر محركا لها، إلا أن دور الأم يعتبر الطاقة التي تشغل هذا المحرك. إنها كل شيء في البيت إن غابت عنه غاب معها استقراره. فعلى المرأة ألا تنسى أنوثتها والأمومة التي أعدت من أجلها محتفظة بحقها في الخروج لقضاء مصالحها ولوازم البيت، للدراسة، لحضور الندوات وللعمل إن تطلب منها الأمر ذلك. وليست كل الأعمال صالحة لها، لأن طبيعة العمل كيفما كان نوعه يكون لها تأثير بالغ على فيزيولوجية الشخص وعلى نفسيته كذلك. وعليه، فالمرأة مهددة بفقدانها الطابع الأنثوي مع مرور الوقت لو استمرت في تطاولها على ميدان الرجل.
وتعد ثقافة المرأة شرط رئيسي لكي تعلم أبناءها تعليما سليما وترفع من مستوى أخلاقهم وتنمي شعورهم بالمسؤولية وتأدية الواجب. فالأم كما نعلم هي المدرسة التي يتلقى فيها الطفل دروسه الأولى فهي التي تعد الأجيال الناشئة وترسل بها إلى المجتمع إما قوية الجسد، نيرة العقل وكريمة الخلق وإما هزيلة، جاهلة وفاسدة.
2-3 القبيلة
إن قيام نظام الأسرة كان له تأثير بالغ على كل الأفراد أحفاد آدم وعلى طبيعة العلاقات التي ربطت فيما بينهم نظرا لاشتراك المصالح والأهداف. وجدير بالذكر هنا أن أشير إلى الدور الذي لعبته المصاهرة في تكاثر الأسر وفي توطيد العلاقات بين الأفراد وترسيخ وتثبيت المبادئ الأولى التي وضعها الجد الأول.
واستجابة لهذا التعايش الذي حصل بين الأسر تشكلت الدواوير ثم ظهرت القبيلة التي لم تكن نشأتها غريبة المفهوم عن أفرادها من حيث طبيعة النظام الذي تمشي عليه، فمثلما كان الفرد طرفا من الثلاثية داخل الأسرة فهو طرف كذلك من الثلاثية داخل القبيلة حيث يوجد شخص حكيم ومحنك يرعى شؤونها وهيأة تتوسط بينه وبين الأفراد تعمل على تنفيذ القرارات والأحكام. إلا أنه في الوقت الذي نشأت فيه هذه القبيلة وحددت مسارها نشأت بجوارها قبائل أخرى وكذلك بعيدا عنها مع العلم أن كل قبيلة ظهرت إلا وكانت لها مصالح ومخططات وأهداف تود تحقيقها. ومع مرور الوقت كثر عدد الأسر في القبائل كما كثر عدد القبائل على الأرض واشتدت المنافسة والصراع حول كل الأشياء ذات القيمة فترتب على ذلك تحالف القبائل المتقاربة من أجل التغلب على الخطر الذي قد يواجهها من القبائل البعيدة. فصارت القبائل تتحالف وتتخذ شكل مجموعات متفرقة هنا وهناك وفي كل الأرجاء.
3-3 الدولة
إن تحالف القبائل على شكل مجموعات مستقلة كان وراء ظهور كل الدول المعترف بها حاليا بمختلف أنظمتها. وبهذا تكون الدولة جسما أعضاءه قبائل قررت وفق اتفاق أن تتنازل بمقتضاه عن مهمة حفظ السلام والأمن لأحد ما تجتمع فيه الصفات المطلوبة لتكون بيده السلطة ويكون له الحق في قيادتها وتوجيهها نحو الغاية التي أنشأ من أجلها وبذلك يتقرر أن تتنازل كل قبيلة عن قسط من قوتها وسيادتها بشرط أن تتنازل القبائل الأخرى بالمثل، ومنذ ذلك الحين يصبح الحاكم ذا سيادة كاملة على تلك القبائل وأفرادها شريطة أن يلتزم هو بما تم الاتفاق عليه.
ولتوطيد العلاقة بين الحاكم والرعايا في هذا النموذج المجتمعي وكي لا يشعر الفرد أنه يخضع إلى نظام غريب، وعن غير قصد تم تطوير نظام الثلاثية الذي ألف به الفرد داخل الأسرة وداخل القبيلة كذلك وجعله يستمر تماشيا مع نمو جسم البشرية. ومن أجل تحقيق ذلك قام الحاكم المحنك بتعيين هيأة من الوزراء تتولى تنفيذ القوانين وصيانة الحريات التي تسنها الدولة كما أنشأ هيأة أخرى منتخبة من لدن رعاياه تستعرض المشاكل وتقترح الحلول.
ومهما كبر جسد الدولة وتوسع فإنه يبقى دائما صورة مكبرة لجسد الأسرة محتفظا بخصائصها وبالعلاقة الأساسية التي تحكمها، فمثلما نجد الأب والأم والأبناء داخل الأسرة نجد الحاكم والحكومة والشعب داخل الدولة. وإن كانت الأولى تهدف إلى حماية أفرادها والسهر على نجاحهم فإن الثانية تسعى من وراء قيامها إلى تعايش الأسر وخلق الانسجام بين القبائل والحفاظ على سلامتهم.
على هذا النهج صارت الدول تتشكل هنا وهناك وفي كل بقاع الأرض وأصبح لكل واحدة منها خصائص وأعمال وأهداف تدافع عنها عند تعرضها للخطر وتغزو بها دول أخرى إن كانت أقل منها قوة. وقد استمر هذا الوضع على حاله زمنا طويلا حتى وصلت البشرية القرن العشرين بعد الميلاد حيث وجدت الدول في نفسها الحاجة إلى التحالف نظرا للعديد من الاعتبارات سبق ذكرها.
3-4 العولمة
لقد وصلت البشرية على ضوء النظام إلى مرحلة التحالف الأخيرة، وهي مرحلة كسابقاتها لا تخلو من الانعكاسات السلبية والمعاناة التي نعيش حاليا بدايتها. إنها تحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى إلى نظام جديد تسير عليه ولإقرار مثل هذا النظام على العالم أن يتقيد بالنظمة الثلاثية الاجتماعية التي سبق للدولة أن تقيدت بها كما حدث للقبيلة وللأسرة كذلك من قبل، والتي ألِف بها الأفراد في كل الأحوال.
ولكي تكتمل شروط النظمة الثلاثية الاجتماعية، يجب خلق مجلس عالمي جديد مستقل بذاته يكون فيه الحق في تدبير أموره لأشخاص همهم الرئيسي هو مصير الإنسانية بحيث يكون عددهم ثمانية عشر شخص منتخبين من طرف شعوب دول القارات يمثلون بذلك العالم أجمع (4 من أوروبا، 4 من إفريقيا، 4 من آسيا و4 من الأمريكيتين و2 من أوقيانوسيا). صاحب أعلى الأصوات في كل قارة سينضم للمجلس العالمي الحاكم المكون من 5 أشخاص أما باقي ال 13 الفائزين فسيشكلون الحكومة العالمية ذات 13 حقيبة وزارية. أما البرلمان فسيشكله النواب حيث كل دولة سترشح نائبا يمثلها.
ومهمة هذا المجلس العالمي الحاكم في نظام العولمة لا تختلف عن مهمة الرئيس في نظام الدولة والمتجلية في حماية الشعب وتحقيق الاكتفاء الذاتي له من حريات وحياة كريمة بالإضافة إلى حماية كوكب الأرض الذي نعيش فوقه من الأخطار بحظر التجارب النووية التي لها تأثير خطير على استقرار الطبقات الأرضية وكذا الحفاظ على الغلاف الجوي بتقليص نسبة الانبعاثات.
إن تطبيق النظمة الثلاثية الاجتماعية على مجموع دول العالم يعتبر حلا سيجعل الإنسانية في مأمن. ولهذا يجب على كافة الدول أن تتفق على القانون الأساسي لقيامه وأن تساهم في نفقات إنشائه واستمراريته حتى لا يبقى هناك مجال لدولة تسعى وراء منفعة تتضارب مع مصالح غيرها. وهذا ما لم تستطع الأمم المتحدة تحقيقه.
إن الأمم المتحدة وحدها عاجزة عن إقرار التوازن بين الدول كما أنها غير قادرة على إيقاف حماقات بعض الزعماء (الابن العاق) التي قد تدفع بالإنسانية إلى الدمار. فهي إذا كالزوجة المطلقة أو الأرملة التي تتحمل كل أعباء البيت والأولاد لوحدها، لذلك تحتاج إلى من يشد بيدها ويساعدها في تدبير شؤون الشعوب وحمايتهم. وعليه سيتولى المجلس العالمي الحاكم زمام شؤون الشعوب بنفس الشكل الذي يتولى فيه رئيس دولة ما أمور شعبه رغم اختلاف العرق والدين واللغة ما دامت قواسم عديدة مشتركة موجودة تشجع على الاندماج.
إن تأسيس هذا المجلس الجديد سيجعل من العالم أسرة واحدة وسيحد من الفوضى التي تجر العالم صوب حرب قد لا يسلم من تأثيرها بلد، وسيكون الهدف هو توحيد العالم وتوجيهه لما فيه الخير بما في ذلك تحقيق التقدم والرخاء لكل الدول بعيدا عن مفهوم المساعدات التي يعد تلقيها دليل على التبعية. فالمجلس العالمي الحاكم يقرر والحكومة العالمية تنفد، مجلس النواب يراقب والشعوب تستفيد وتعيش مرحلة العولمة بمعناها الصحيح..
وعليه سيتأسس تشييد حضارة عالمية تعكس الصورة الحقيقية التي ينبغي على الإنسانية أن تظهر عليها.