عرض مشاركة واحدة
قديم 21-05-2009, 12:46 PM   #5
noooor
V I P


الصورة الرمزية noooor
noooor غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 5696
 تاريخ التسجيل :  02 2004
 أخر زيارة : 15-11-2010 (09:06 PM)
 المشاركات : 8,386 [ + ]
 التقييم :  87
لوني المفضل : Cadetblue


.

خامسًا: الآثار المترتبة على تتبُّع الرُّخص:

لا شكَّ أن لتتبُّع الرُّخص آثارًا ونتائج سلبية تؤدي إلى مسلك خطير. وقد توسع في الحديث عنها "الإمام الشاطبي" في كتابه النفيس (الموافقات)، وأيضًا هناك بعض الإشارات من علماء آخرين كابن الصلاح والنووي وابن القيم.. أجملُها في نقاط([27]):

1ـ أن فيها مخالفة لأصول الشريعة ومقاصدها، وذلك لأن الشريعة جاءت لتخرج الإنسان من داعية هواه، وجاءت بالنهي عن اتِّباع الهوى، وتتبُّع الرُّخص حثٌّ لبقاء الإنسان فيما يحقق هواه، واتِّباع ما تميل إليه نفسه.

2ـ الانحلال من رِبْقَةِ التكليف، يقول "الشاطبي" وهو يتكلم عن ذلك: (فإنه مؤدٍّ إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها؛ لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء، وهو عين إسقاط التكليف)([28]).

3ـ ترك اتِّباع الدليل إلى اتِّباع الخلاف، وهذا مخالف لقوله تعالى : {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].

4ـ الاستهانة بالدين وشرائعه، إذ يصير بذلك سيالاً لا ينضبط.

5ـ قد يفضي إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماع العلماء.


سادسًا: المُفتون والواقع:

إن الناظر في حال بعض المُفتين اليوم يخشى أن يشملهم ذلك الوعيد والزجر الذي قاله العلماء وحذروا منه في من تتبَّع الرُّخص الممنوعة، وذلك لأجل وقوعهم في المحظور المنهي عنه، ولكونهم أيضًا أخذوا التيسير منهجًا في الفتوى بناء على أخذ الأسهل من الأقوال، وتساهلوا فيها بحجة مجيء الشريعة باليُسْر والسهولة ورفع الحرج؛ لكون ذلك مقصدًا من مقاصدها العظمى التي امتازت به.

وكونُ الشريعة الإسلامية جاءت بذلك مما لا شك فيه؛ لأنه قاعدة كلية عظمى.

لكن هناك فرق بين هذه القاعدة وبين التساهل وتتبُّع رخص العلماء ورفع مشقة التكليف باتِّباع كل سهل بدون أصول وضوابط، فحينما نبني الفرع الفاسد على الأصل الصحيح، أو نأخذ برخصة إمام من الأئمة خالف فيها الدليل الصحيح الصريح لأسباب وأمور هو معذور فيها([29])، بحجة القاعدة الكبرى وهي التيسير ورفع المشقة والحرج.. فهذا غير صحيح، ويوصلنا إلى منهج يعارض أصل الشريعة ومقاصدها وانضباطها، ولذلك سدَّ العلماء هذا الباب وحرّموه، يقول ابن مفلح: (يحرم التساهل في الفُتْيا، واستفتاء من عرف بذلك)([30])، ويقول ابن القيم: (الرأي الباطل أنواع، أحدها: الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحل الفُتْيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد)([31]).

وللأسف فإن الذين عرفوا بذلك واتخذوا التيسير المحظور منهجًا لهم فقد وقعوا في محظورات وأخطاء أكبر، فها هم يريدون تطويع الفتوى بحجة مسايرة الواقع ومواكبة العصر ومتغيراته، ولم يفرِّقوا بين الثابت والمتغير، وأرادوا أن يغيّروا الفقه الإسلامي تغييرًا موافقًا لقواعدهم، لكي يكون الفقه الإسلامي فقه التيسير والوسطية، وهو كذلك، لكن ليس على قاعدتهم ونظرتهم، ونتيجة لذلك فإن تساهلهم أوصلهم إلى أقوال غريبة وشاذّة، حتى ميّعوا الدين واستطال الجُهال عليه، وعطّلوا بعض الحدود والأحاديث، وأصبحنا نرى فتاوى يستنكرها العوام أصحاب الفطر السليمة فكيف بأهل العلم!! فهذا يرى جواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة، وذاك يفتي بجواز شرب الدخان لمن يقدر على شرائه، وهذا يرى أنه لا ينبغي إقامة حدّ الردة على المرتدّ في هذا الوقت، وآخر يرى جواز مصافحة المرأة الأجنبية للرجال وتقبيلها ضاربًا على الأحاديث الصريحة عرض الحائط، ولا تعجب أن تسمع من يقول لأحد اللجان الوضعية في بلاده: "ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه موافق الزمان والمكان، وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنصٍّ من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم..."([32]).

إن من يسمع لمثل هذه الفتاوى أو يقرؤها ليتبادر إلى ذهنه سؤال كيف وصل الأمر إلى ذلك؟ وهل يجوز لهذا المفتي أو غيره من المُفتين الإفتاء في دين الله بالتشهي والتخيّر؟! وهل يجوز البحث عن الأقوال التي توافق غرض المفتي وهواه؟! أو غرض من يحابيه.. فيفتي به ويحكم به؟ يُجيب عن ذلك ابن القيم بقوله: (هذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر والله المستعان..)([33]).

وهذا "الإمام الشاطبي" ينقل في (موافقاته) كلامًا جميلاً للإمام الباجي قال: "... لا خلاف بين المسلمين ممن يعتدُّ به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه وسخط من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حَكَمَ به وأوجبه؟ والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]([34]).

ونظرًا لأهمية هذه المسألة فقد عدَّ بعض العلماء كالسمعاني وغيره الكفّ عن الترخيص والتساهل شرط من شروط المفتي([35]).

ولو تأملنا ما رواه البيهقي([36]) بإسناده عن إسماعيل القاضي يقول: (دخلت على المعتضد بالله فدفع إليّ كتابًا، فنظرت فيه، فإذا قد جمع له من الرُّخص من زلل العلماء، وما احتج به كل واحد منهم، فقلت: مصنِّفُ هذا زنديق. فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر النبيذ لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلّة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب)([37]). فهذا المذهب والمسلك الذي سلكوه ليس جديدًا كما ترى، بل عُمل من قبل، وأنكره العلماء، وبيّنوا أنه مبنيٌّ على أصول فاسدة تذهب الدين وتفسده.

يقول الإمام النووي: (لو جاز اتّباع أيّ مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعًا لهواه ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز وذلك يؤدي إلى الانحلال من رِبْقَةِ التكليف)([38]).

فلا شك أن الواجب على الناظر والباحث في النصوص الشرعية أن يخلع على عتبته آراءه الخاصة، ويسلم قياده لهذا النص، يتجه به حيثما توجه، جاعلاً له منهجًا صحيحًا، مراعيًا الشروط والضوابط، واضعًا الأشياء في مواضعها الصحيحة، متجردًا للحق، مبتعدًا عن الهوى والتعصب، جاعلاً الشمولية وجمع الأدلة نهجه ومعلمه، والحق بدليله مقصده، ومن ثم يعرض الأقوال كلها ويقارنها ويحرّرها وينظر الموافق إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة فيتّبعه، وعليه أن لا يصدر الحكم قبل البحث والتحرّي، فإذا أصدر الحكم قبل البحث صار البحث انتقائيًا جزئيًا واستدلالاً للحكم الذي رآه واختاره من قبل، فينبغي أن يستدل أولاً للمسألة، ثم يعتقد وليس له أن يعتقد ثم يستدل تبعًا لرأيه ورغبته، وقد أشار إلى ذلك ابن القيم في زاد المعاد([39]). أما الذين يدرسون النصوص لتأييد مقررات سابقة في نفوسهم فإن الغالب عليهم عدم الانتفاع بهذه النصوص، فالإخلاص في طلب الحق شرط أساس لتحصيل الهداية وإدراكها.. والله المستعان.

قال الإمام الشاطبي: (فإن في مسائل الخلاف ضابطًا قرآنيًا ينفي اتّباع الهوى جملة، وهو قوله تعالى : {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله والرسول وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول...)([40]).

ويقول ابن الصلاح: (لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يُستفتى، وذلك قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل، ولأن يُبطئ ولا يخطئ، أجمل من أن يعجل فيضلَّ ويُضل...)([41]).


يتبعــ


 

رد مع اقتباس