قوله (لا يسترقون)، في بعض روايات مسلم [مسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب.]: (لا يرقون).
ولكن هذه الرواية خطأ؛
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرقي [البخاري: كتاب الطب/ باب رقية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومسلم: كتاب السلام/ باب استحباب الرقية من العين.]،
ورقاه جبريل [ مسلم: كتاب السلام/ باب الطب والمرض والرقى.] ،
وعائشة [البخاري: كتاب فضائل القرآن/ باب فضل المعوذات، ومسلم: كتاب السلام/باب رقية المريض.]،
وكذلك الصحابة كانوا يرقون [كما في قصة صاحب السرية.].
واستفعل بمعنى طلب الفعل، مثل: استغفر؛
أي: طلب المغفرة، واستجار: طلب الجوار،
وهنا استرقى؛ أي: طلب الرقية، أي لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم؛ لما يلي:
ولا يكتوون ولا يتطيرون.
1- لقوة اعتمادهم على الله.
2- 2- لعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله.
3- 3- ولما في ذلك من التعلق بغير الله.
وقوله: (ولا يكتوون)، أي: لا يطلبون من أحد أن يكويهم.
ومعنى اكتوى: طلب من يكويه، وهذا مثل قوله: (ولا يسترقون).
أما بالنسبة لمن أعد للكي من قبل الحكومة، فطلب الكي منه ليس فيه ذلك؛ لأنه معد من قبل الحكومة يأخذ الأجر على ذلك من الحكومة، ولأن هذا الطلب مجرد إخبار من الطالب بأنه محتاج إلى الكي، وليس سؤال تذلل.
قوله: (ولا يتطيرون)، مأخوذ من الطير، والمصدر منه تطير، والطيرة اسم المصدر، وأصله: التشاؤم بالطير، ولكنه أعم من ذلك؛ فهوالتشاؤم بمرثي، أو مسموع، أو زمان، أومكان.
وكانت العرب معروفة بالتطير، حتى لوأراد الإنسان منهم خيرًا ثم رأى الطير سنحت يمينًا أو شمالًا حسب ما كان معروفًا عندهم، تجده يأخر عن هذا الذي أراده، ومنهم من إذا سمع صوتًا أو رأى شخصًا تشاءم، ومنهم من يتشاءم من شهر شوال بالنسبة للنكاح، ولذا قالت عائشة رضي الله عنها: (عقد علي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شوال، وبنى بي في شوال؛ فأيكن كان أحظى عنده) [مسلم: كتاب النكاح/ باب استحباب التزوج والتزويج في شوال.]، ومنهم من يتشاءم بيوم الأربعاء، أو بشهر صفر، وهذا كله مما أبطله
الشرع؛ لشرره على الإنسان عقلًا وتفكيرًا وسلوكًا، وكون الإنسان لا يبالي بهذه الأمور، هذا هوالتوكل على الله ولهذا ختم المسألة بقوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت: 59]؛ فإنتفاء هذه الأمور عنهم يدل على قوة توكلهم.
وهل هذه الأشياء تدل على أن من لم يتصف بها فهومذموم، أوفاته الكمال؟
الجواب: أن الكمال فاته إلا بالنسبة للتطير؛ فإنه لا يجوز؛ لأنه ضرر وليس له حقيقة أصلًا.
أما بالنسبة لطلب العلاج؛ فالظاهر أنه مثله لأنه عام، وقد يقال: إنه لولا قوله: (ولا يسترقون)؛ لقلت: إنه لا يدخل؛ لأن الاكتواء ضرر محقق: إحراق بالنار، وألم للإنسان، إن لم تنفع لم تضر، وهنا نقول: الدواء مثلها؛ لأن الدواء إذا لم ينفع لم يضر، وقد يضير أيضًا لأن الإنسان إذا تناول دواء وليس فيه مرض لهذا الدواء فقد يضره.
وهذه المسألة تحتاج إلى بحث، وهل نقول مثلًا: ما تؤكد منفعته إذا لم يكن في الإنسان إذلال لنفسه؛ فهولا يضر، أي: لا يفوت المرء الكمال به، مثل الكسر وقطع العضو مثلًا، أوكما يفعل الناس الآن في الزائدة وغيرها.
ولو قال قائل بالاقتصار على ما في هذا الحديث، وهوأنهم لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وأن ما عدا ذلك لا يمنع من دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ للنصوص الواردة بالأمر بالتداوي والثناء على بعض الأدوية؛ كالعسل والحبة السوداء؛ لكان له وجه.
فقام عكاشة بن محسن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: (أنت منهم). ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: (سبقك بها عكاشة) [البخاري: كتاب الرقاق/ باب يدخل الجنة سبعون ألفًا)، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب.]
وإذا طلب منك إنسان أن يرقيك؛ فهل يفوتك كمال إذا لم تمنعه؟
الجواب: لا يفوتك؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يمنع عائشة أن ترقيه [ سبق تخريجه (91).
] ، وهوأكمل الخلق توكلًا على الله وثقة به، ولأن هذا الحديث: (لا يسترقون...) إلخ إنما كان في طلب هذه الأشياء، ولا يخفى الفرق بين أن تحصل هذه الأشياء بطلب وبين أن تحصل بغير طلب.
قوله: (فقال: أنت منهم)، وقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا هل هوبوحي من الله إقراري، أو وحي إلهامي، أو وحي رسول؟
مثل هذه الأمور يحتمل أنها وحي إلهامي، أوبواسطة الرسول، أو وحي إقراري، بمعنى أن الرسول يقولها، فإذا أقره الله عليه؛ صارت وحيًا إقراريًا.
لكن رواية البخاري: (اللهم اجعله منهم) تدل على أن الجملة: (أنت منهم) خبر بمعنى الدعاء. قوله: (ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: سبقك بها عكاشة)، لم يرد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقول له: لا، ولكن قال: سبقك بها؛ أي
الشيخ ابن عثمين رحمة الله